[تم تسجيل هذا الحوار مع طلال أسد يوم الخميس، الحادي عشر من يوليو (تموز) 2013. وأجرته عايشة كوبكجو، محرر مشارك في صفحة تركيا في “جدلية”. ]
عايشة كوبكجو: قبل كل شيء، أود أن أشكرك على موافقتك على إجراء هذا الحوار المفتوح، والذي نأمل أن نتشارك فيه مع قراء “جدلية”. بعد التدخل العسكري في الثالث من يوليو (تموز) في مصر، زعم بعض المعلقين أننا شهدنا في الثالث من يوليو محاولة عسكرية استراتيجية لاحتواء القوى الثورية في مصر. وبشكل أكثر تحديداً، فإن الجيش اضطر للتدخل تحت ضغط انتفاضة شعبية كان يحاول احتواءها. فيما زعم آخرون أن الجيش كان يدعم فعلاً الانتفاضة ضد مرسي، أو ما وصفوه من أحداث الخامس من يوليو على أنه استمرار لثورة 2011. ولكن في المقابل، أصر الآخرون على أن ما رأيناه هو انقلاب واضح المعالم ضد رئيس منتخب بشكل ديمقراطي. ما هو تفسيرك لهذا النقاش؟
طلال أسد: حسناً، لقد دار الكثير من النقاش طبعاً حول ما إذا كان ما حدث إنقلاباً، أم أنه كان بشكل أساسي استجابة من الجيش لطلبات الثورة الشعبية. لن يكون عندي تردد في وصف مل حدث بأنه انقلاب، ولكن ربما هذه ليست النقطة الأكثر أهمية التي يجب أن نحددها في البداية. النقطة التي أريد التركيز عليها هي أن المعارضة تشكلت من عدة عوامل تملكها اليأس، ربما ليست يائسة إلى حد كبير، وبضمنها الجزء المهم الذي يسمى بالفلول، وهم المستفيدون من عصر مبارك، إضافة إلى الحركة التي تسمي نفسها “تمرد”، والتي تضم الكثير من الشباب من مناصري الديمقراطية الذين عقدوا العزم على التخلص من الرئيس مرسي بأي ثمن. أنا شخصياً لست مهتماً جداً بشرعية أو عدم شرعية إزاحة رئيس منتخب. صحيح أن الرئيس لم يفز بهامش كبير، ولكن هذا ليس ضرورياً في الديمقراطية الليبرالية كشرط للنجاح الانتخابي. وحتى إذا كان هذا شرطاً، كما أصر المتظاهرون، فإنه كان يتصرف إلى حد كبير بالنيابة عن حزب الحرية والعدالة لا عن البلد ككل، وهو الأسلوب الذي يجب أن تمارس به السياسة في الديمقراطيات الليبرالية. هناك الكثير من الحديث حول "الأمة" و"الشعب" ، لكن الديمقراطيات الانتخابية لا تعمل لمصلحة كل المواطنين، ولكن في الحقيقة هي تعمل لمصلحة أصحاب المصالح الخاصة الممثلين بالحزب الفائز في الانتخابات.
إنني مهتم أكثر هنا بحقيقة أن هناك تحالفاً معيناً تم تشكيله بين بعض الأشخاص (المنتفعين من نظام مبارك وبضمنهم الجيش) الذين يمتلكون رؤية واضحة حول ما يريدونه، وآخرين (الحركة المناصرة للديمقراطية) الذين لا يمتلكون هذا الوضوح في الرؤية. وعلى أية حال، وفي المدى الذي يمتلكونه من وضوح الرؤية، فإنهم بالتأكيد غير واضحين حول كيفية تحقيقه. فهم لا يزالون في مرحلة الشعارات لأن جهودهم لا تزال متركزة بشكل كبير في الاعلام. المشكلة كما أراها هي أن تيار دعاة الديمقراطية لم يفكر بشكل عميق في كيفية تشكل هذا التحالف الواسع ضد مرسي، وكيف أن أهداف المؤسسة العسكرية تتعارض مع أهدافهم. يبدو أنهم قد شعروا بأنهم طالما انتصروا ضد حكومة مرسي، فإنه من المسلم به أنهم سينتصرون على الجيش والمدنيين المناصرين له (أصحاب الأعمال، الإعلام، والقضاء مثلاً).
لا أدري إن كانوا قد قرأوا مقالا في “نيويورك تايمز” يصف كيف أن كل الأسباب المباشرة للتذمر الشعبي، من انقطاع للبنزين والكهرباء وغياب للأمن، قد اختفت فجأة. فبين ليلة وضحاها أصبح الوقود متوفراً في المحطات، وظهرت الشرطة في الشوارع إضافة لأشياء أخرى، وهذا يظهر في المقام الأول أن المواطن العادي مهتم بمشاكل الحياة اليومية التي يواجهها أكثر من اهتمامه بإعادة تشكيل المجتمع. كما يظهر أنه كان هناك تنسيق واضح لتأزيم الوضع.
عايشة كوبكجو: تنسيق من قبل من؟
طلال أسد: الجيش إضافة للفلول، وأقصد هنا المنتفعين من نظام مبارك. أعتقد أنهم كانوا يعرفون بالضبط ما يفعلون، وأنهم استفادوا من قدر معين من التذمر الشعبي، وكان هناك الكثير من الحركة المشتركة بينهم. على سبيل المثال، فقد تناقش البرادعي مع أحمد شفيق قبل أشهر في السعودية، وهو المرشح القديم الذي خسر أمام محمد مرسي وكان آخر رئيس وزراء عهد مبارك، والذي يمثل (أو على الأقل هو أحد من يمثلون) مصالح عهد مبارك وبضمنها الجيش. وبالتأكيد فقد توصلوا إلى اتفاقات معينة كقادة لجبهة الانقاذ الوطني، ولا أتخيل أن الجيش لم يكن على علم بهذه الاتصالات. ويبدو لي أن أغلب الشباب من حركة “تمرد” لم يكونوا على علم بهذا، رغم أنه من المعروف الآن أن بعضاً من أشهر أصحاب الملاييم ، مثل نجيب ساويرس، كانوا يمولون الحركة ويدعمونها بأساليب أخرى. لهذا فأنا أعتقد أنه كان هناك "تنسيق"، إن لم نقل "مؤامرة"، لجعل المعارضة فعالة سواء بأساليب صحيحة أو خاطئة. ما يقلقني حقيقة هو تدخل الجيش، وهو شيء لم يكن يتوقعه الجميع (رغم أن بعض قادة جبهة الانقاذ الوطني طالبوا به علناً)، وما تبع هذا التدخل من تعليق للدستور الذي تمت الموافقة عليه بأغلبية مريحة في استفتاء عام. أنا قلق أن هناك الآن فراغ كامل سيتم ملؤه ولفترة طويلة من قبل الجيش، رغم تعيين الجيش لرئيس مؤقت (والذي كان رئيساً للمحكمة الدستورية العليا المؤيدة لمبارك) أعطي صلاحيات تفوق ما أعطاه الدستور المعطل للرئيس المنتخب، محمد مرسي.
أعتقد أن الأخوان المسلمين ليس عندهم تصور لنوعية السياسة المطلوبة في أوقات الأزمات وفي مجتمع تعددي، وفي عالم معقد يعتمد على بعضه البعض. لقد اكتسبوا عقلية جامدة كنتيجة للقمع السياسي الذي عانوه طوال أكثر من ستين عاماً. لا يبدو أنهم قادرون على إدراك أن الظروف الجديدة تتطلب توجهات سياسية مختلفة- إمكاناتها ومخاطرها- ليطوروا مهارات سياسية جديدة، سواء كانت برلمانية أو غير برلمانية. في المقابل، قدم الإخوان كل أشكال الوعود، ومن ثم نكثوا بها- ومن أهمها أنهم لن يقدموا مرشحاً للرئاسة لأنهم، وكما قالوا، لا يريدون إخافة الناس. وفي الحقيقة فإنهم قاموا فعلاً بإخافة العديد من الجماعات وخصوصاً العلمانيين، والأقباط، والليبراليين- الذين تخوفوا، أو على الأقل تظاهروا بالخوف- من أن الإخوان المسلمين مصممون على تأسيس دولة إسلامية شمولية، وهذا في اعتقادي، يرينا كم هم غير أكفاء ومرتبكون. إن عدم كفاءتهم ظهرت عدة مرات في الإشارة إلى عدم قدرتهم على استعادة الأمن والنظام، وإدارة اقتصاد حديث، ومحاسبة الجيش على جرائمه ( مثلا، مقتل المتظاهرين، واعتقالهم وتعذيبهم) خلال الفترة الانتقالية التي تلت سقوط مبارك.
ولكن يمكنني هنا أن أحاجج بأن الكثير من هذا النقد غير موفق: فهناك الكثير من القوى التي تجمعت ضدهم مما لم يدع المجال واسعاً أمام حكومة مرسي للحركة المستقلة. ألم يكن بمقدور مرسي أن يحاكم رجال الجيش على جرائمهم؟ لا بد أنك تمزح. هل كان بمقدوره أن ينعش اقتصاداً مفلساً في عالم تسيطر على تدفق الأموال فيه حكومات ومؤسسات لكل منها أجندته السياسية الخاصة به؟ هل كان يستطيع أن يكافح الفقر في بلد تسيطر عليه النخبة من الليبرالية الجديدة؟ هذا ليس المكمن الحقيقي لانعدام كفاءتهم- خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار الفترة القصيرة وهي عام واحد التي تولى فيها مرسي الرئاسة. من وجهة نظري، أرى أن انعدام الكفاءة الكامل، وغباءهم المطلق، يتمثل في عدم توقعهم أنه سيتم تشويه صورتهم إذا ما استلموا السلطة، وقد حدث هذا بالفعل مع شعور بالانتقام. جزء من هذا يمكن أن يرجع إلى الأفكار العلمانية الفظة التي تهيمن على معظم المثقفين القاهريين. لقد كانوا ايضاً غير أكفاء بدرجة كبيرة في عدم قدرتهم، أو عدم رغبتهم، على الوصول إلى أطراف من المعارضة. وفي كل الأحوال، أرى أنه لم يكن عليهم إطلاقاً التطلع إلى منصب الرئاسة- أولاً كمسالة مبدأ، وثانياً لأن الثورة قد خلقت مشاكل عملية هائلة يصعب على أي حكومة أن تحلها. الفوز في الانتخابات لا يعني أنك قوي، كما ظن الأخوان المسلمون، بل إنه يعني أنك مسؤول عن أي فشل في الدولة أو الاقتصاد. ورغم فوزهم الانتخابي، فإن الاخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة كانوا دوماً ولا يزالون ضعفاء. أحد الاتهامات التي وجهت إليهم كانت أنهم يريدون سيطرة شمولية على المجتمع، وأنهم كانوا على وشك الحصول على ما يريدون، وهو كلام فارغ بطبيعة الحال. فهم لم يكونوا يمتلكون تلك السيطرة، بل لم يكونوا يستطيعون الحصول عليها، وليس هناك دليل حقيقي على أنهم أرادوا هكذا سيطرة، وهذا جزء من غبائهم: أن يظهروا بمظهر من يمتلك السيطرة على الدولة.
ع. ك: إذن من كان المسيطر؟
ط. أ: نظام مبارك القديم كان لا يزال مسيطراً، وأرى الجيش كجزء منه. فالجيش لم يكن يعطي أوامر للحكومة المدنية طالما كانت احتياجاته الأساسية- الاقتصادية والاجتماعية- مؤمنة. بعد سقوط مبارك، وخلال ما سمي بالفترة الانتقالية، تدخل الجيش بالفعل في الحياة السياسية المدنية التي تم خلقها مؤقتاً. وهناك فكرة مهمة عن فقدان حرية الفرد في أن يتصرف كما يريد (مثلاً أن يكون تحت السيطرة) في القانون الروماني، والتي توجد أيضاً في الشريعة من خلال تعريف العبودية: المهم في هذه الفكرة ليس وضوح السيطرة ولكن الإمكانية المستمرة للسيطرة. حتى لو لم يتم استعمال القدرة على السيطرة على الأشخاص، فإن الفرد ليس حراً (تحت سيطرة الآخر) طالما أنه/أنها معرض للقوة الاعتباطية للآخر. العبودية، كما يعرفها سكينر، المؤرخ البريطاني للأفكار السياسية، هي "عدم معرفة ما قد يحدث لك." إنه من المعروف على نطاق واسع أن الجيش لا يمتلك وسائل فعالة جداً لاستخدام العنف تحت تصرفه، بل هو يسيطر على أربعين في المائة من الاقتصاد الوطني، ولديه علاقات وثيقة ودعم فردي، ومؤسساتي، ومالي من الولايات المتحدة، وهي في الواقع رشوة يستلمها الجيش منذ أواسط السبعينيات بموجب التفاهم على الحفاظ على الحلف الأمريكي الإقليمي، وبشكل خاص معاهدة السادات مع إسرائيل. أعتقد أن هذا عامل مهم جداً في سلطة الجيش التي تجعل الآخرين يستجيبون لرغباته. ومن هذا المنطلق، فقد كان الجيش حاضراً دوماً، وقد بقي الجيش قوياً جداً حتى في الأوقات التي لم يكن فيها بحاجة للتدخل في الأمور المدنية. ولكن عندما تم تجميع معارضة سوية، كما حدث في الأسابيع القليلة التي سبقت الاطاحة بمرسي، فقد تمكن الجنرالات من القول: " نحن بحاجة لاستعادة الأمن، ونحن في حاجة للاستجابة لطلبات الناس الثورية، ولكننا ايضاً سنستعيد الإجماع الوطني الحقيقي." ولكنه من الواضح أن إنذار السيسي، الذي أعطي ظاهرياً للطرفين على حد سواء، كان إنذاراً للرئيس فقط. وبهذا فإنه يمكنني أن أنسى موضوع الشرعية، أو بمعنى آخر الاطاحة برئيس منتخب. النقطة المهمة هنا هي أن جنرالات الجيش استغلوا الصراع السياسي ليقدموا أنفسهم على أنهم حكم النزاع، وهم حكم يحتاج أن يتصرف فقط عند الحاجة. (العبد- السيد يستعمل العصا فقط عند الحاجة).
لقد دارت الكثير من المناقشات في الصحف المصرية كما في أماكن أخرى عديدة، حول ما إذا كان الجيش محقاً في الاستجابة لطلبات الناس كما أظهرتها الحشود الضخمة لمعارضي مرسي، أم أنه كان مخطئاً في الاطاحة برئيس يمثل الخيار الانتخابي للناس. لا أعلم حقيقة، وفي ظل هذا الوضع الحرج، ما هو المفترض على "الشعب" أن يفعله، من هم؟ من الذي يتحدث باسمهم؟ وكيف امتلك من يتحدثون باسمهم السلطة لفعل هذا؟
"الشعب" هو حالة تخيلية، والانتخابات لا تمثل "الإرادة المشتركة للشعب." الانتخابات" ضرورية لأنه لا يوجد ما هو مشترك. في أحسن الأحوال، تعتبر الانتخابات طريقة للتعامل مع الاختلافات. وبتعبير آخر، إذا كنت تقر بوجود خلافات عميقة وتريد أن تحلها بدون استعمال القوة، فإنه يمكنك أن تلجأ للانتخابات. ولكن إذا كانت الانتخابات لا تعبر عن "إرادة الشعب،" إذن فإن المظاهرات الشعبية التي تدعو لتدخل الجيش تحت زعم أنه يستجيب "لإرادة الشعب" لا تعبر عن تلك الارادة أيضاً. إن هذا النوع من المنطق من جانب الجيش، ومن جانب المعارضة أيضاً، كان محيراً للغاية. ففي أوقات الأزمات العنيفة لا يوجد ما يسمى بالشرعية. إن الادعاءات بالشرعية في هكذا مواقف (كما هو في الحرب الأهلية السورية الرهيبة) هي ببساطة طرق لرفع الروح الحزبية.
إذن، فالمعارضة تتكون أساساً من النخبة التي لا تزال في السلطة: رجال الأعمال الأغنياء الذين بنوا أنفسهم في فترة مبارك النيوليبرالية، قضاة المحكمة الدستورية العليا الذين حافظوا على علاقات وثيقة بالجيش، السياسيين الطموحين والسياسيين السابقين، مخرجي برامج التلفزيون ومقدمي البرامج الحوارية، الصحفيين المشهورين، بابا الأقباط وشيخ الأزهر وغيرهم. الحقيقة هي أن ضباط الجيش الكبار هو جزء من هذه النخبة، وبالرغم من الحديث عن التحالف بين الجيش والاخوان المسلمين، فكل منهما لديه ما يخافه وما يريده من الآخر: فالجيش لا يحب الاخوان بسبب أيديولوجيتهم وبسبب جذورهم الممتدة عبر منظماتهم في أرجاء البلد (فهم أكثر أحزاب المعارضة شعبية)، والإخوان لديهم شكوكهم حول الجيش بسبب دوره التاريخي في قمعهم، وبسبب احتكاره الحالي لوسائل القوة. الحقيقة هي أن النخبة (مع قادة السلفيين الممولين من السعودية كما يقال) وافقوا على دعم تدخل الجيش في ما سمي باجتماع الإجماع الذي ألقى فيه الفريق السيسي بيانه وأوقف العمل بالدستور، وهذا يبدو لي مثيراً للدهشة ولكنه ليس مفاجئاً. فهناك الكثير مما لا توافق عليه المعارضة في الدستور، ولكنه كان يمكنهم التناقش حوله وتغيير أو تعديل مواده بعد الانتخابات البرلمانية والتي كانت قريبة. وفي البرلمان الجديد، فإن الإخوان المسلمين – والذين فقدوا بالفعل شعبية كبيرة- لم يكونوا على الأغلب ليحصلوا على أغلبية المقاعد. ولكن الجيش ومنتفعي عصر مبارك يبدوا أنهم قد قرروا سوية أن هذا ليس ما يريدونه بالفعل، وأن ما يريدونه لا يمكن ضمانه إلا بواسطة تدخل الجيش الذي يظهر على أنه استجابة "لمطالب الشعب." أنا أخاف من الأسوأ، لأنني دوماً أتخوف من تدخل الجيش في الحياة السياسية ولأي سبب كان. وإذا وفر الانفلات الأمني العذر لقادة الجيش للبقاء "لاستعادة الأمن" و"الإشراف على خارطة الطريق" فإن هذا مؤشر سيئ. وإذا انسحبوا بالفعل بعد فترة وجيزة، فإنهم سيكونون قد ساعدوا في الحفاظ على استعادة الوضع الراهن ووضعوا سابقة سيئة.
ع. ك: إذن كيف يمكن لنا أن نفسر موقفاً نجد فيه، إذا كانت التقارير صحيحة، العديد من أطراف المعارضة في صف التدخل العسكري؟ بالتأكيد هناك العديد من القوى السياسية التي تشاطرنا هذا النقد لتدخل الجيش، وهم ممن يعارضون التدخل العسكري من ناحية المبدأ و/أو الممارسة، ولكن بعض التقارير تتحدث عن أن الكثير من الناس في الشوارع أيدوا الجيش. هل يمكن لهذا أن يغير من تفسيرنا لقوى المعارضة في مصر؟
ط. أ: نعم، أعتقد أن ما قلته له هذا التأثير. في البداية، أعتقد أنه من الضروري أن نعي تماماً أنه لا توجد معارضة واحدة. لقد كان هناك الكثير من الحديث حول أن ما حدث هو تعبير عن إرادة الشعب، وأنه يعد موجة جديدة من ثورة 25 يناير 2011، أو استعادة للثورة وهكذا. لقد تم الحديث عن أرقام لا يمكن معرفة مدى دقتها. ولكن هناك فرق كبير بين انتفاضة 25 يناير، أياً كانت محدداتها وهناك بالفعل محددات مهمة، والتدخل في 3 يوليو لم يتم الحديث عنه بشكل واضح: لقد كان هناك بالفعل وحدة كاملة بين قوى المعارضة في الأسابيع التي قادت إلى الإطاحة بمبارك. إن المنتفعين من نظام مبارك (أي الفلول) كانوا صامتين ولم يخرجوا إلى العلن بشكل كبير. ولكن في وقتنا الحاضر، كانت هناك مظاهرتان كبيرتان ضد ومع مرسي. إنه جيد أن نقول أن المعارضة هي تعبير عن إرادة الشعب (قرأت في مكان ما أنها " أعظم خروج شعبي في تاريخ مصر") أياً كان معنى هذا الكلام. ولكن كان هناك مواطنون ممن أيدوا مرسي. صحيح أن تظاهرات ميدان التحرير كانت كبيرة، وأنها قد تكون بالفعل أكبر بكثير من مظاهرات مؤيدي مرسي، من يدري. فقد كان الإعلام مصمماً على تضخيم مظاهرات معارضي مرسي بالقول والصورة، وتجاهل مظاهرات مؤيدي مرسي. وإضافة لذلك، فلم تكن مظاهرات مؤيدي مرسي قاصرة على الإخوان المسلمين فقط، بل كان فيها أيضاً أشخاص ممن شعروا أنهم لا بد أن يساندوا ما يسمى بالشرعية، أو الرئيس المنتخب دستورياً. في هذه الحالة، وخلافاً لما كان عليه الوضع في انتفاضة 25 يناير ضد مبارك، فقد تدخل الجيش بشكل رسمي في وضع ساهم هو شخصياً ببلورته. لذلك فإن القول إن الجيش تدخل تماماً كما فعل في السابق (بالاستجابة لرغبة الشعب) هو أمر يجب أن ننظر إليه بشك.
ع. ك: البعض يجادل أن هناك شرعية ثورية تعلو على الوضع القانوني، وهو ما يمكن له "بحق" أن يشكل ثورة. بتعبير آخر، يجب ألا ينحصر خيالنا السياسي في الاطار القانوني، وأن هناك توصيفات مختلفة لتقييم ما نشهده في مصر. هل تؤيد هذه الفرضية حول الشرعية الثورية التي تتجاوز موضوع القانون؟
ط. أ: نظرتي الشخصية هي أننا إزاء وضع بالغ التعقيد حيث نرى أن الموضوع الرئيس هو ليس من الذي يمتلك الشرعية "الأصيلة." الموضوع الذي يشغلني الآن، كما يشغل بالتأكيد الكثيرين في مصر، هو ما هي الخطوات الأكثر منطقية، وفاعلية، وإمكانية للتحقيق بشكل معقول- ولا أعنيه بمفهوم ليبرالي بل أعني بهذا أسلوب التقدم نحو مجتمع عادل ومتسامح. وبالطبع، وتحت ظروف معينة فقد يكون هناك إضطرار لاستعمال العنف من قبل معارضة تواجه قوة لا ترحم، أنا لست من دعاة اللاعنف ودعم فرص تحقيق العدالة والتسامح قد يقتضي استعمال الضغط ضد جماعات من أصحاب المصالح. لا يمكن أن تحترم كل حقوق الأغنياء والأقوياء إذا أردت أن تساعد المسحوقين. ولكن السؤال هو كيف يمكن أن نفكر في مواضيع كالدستور، والشرعية، والعدل في ضوء وجود عدة قوى، داخلية وخارجية، تشكل عناصر في الحكم على الخطوات الواجب أو الممكن اتخاذها. لذلك فأنا لا أعتقد أن معارضة " إما- أو" ، والإصرار على أن هناك نوعاً آخر من الشرعية، المعارضة للنوع البرجوازي، والتي تسمى بالشرعية الثورية تشكل منطقاً معقولاً. أنا لا أعتقد أن هذا النوع من التفكير مفيد جداً. أعتقد أنه من المهم أن نفكر بشكل بناء واستراتيجي حول ما هو الممكن؟ وما الذي نستطيع تحقيقه؟ ومصالح من ستتم خدمتها في القرارات المختلفة التي سنتخذها؟ وما هي الآثار البعيدة المدى المحتملة التي قد تترتب عليها؟ بطبيعة الحال، هناك مخاطر وفي الحالات الجدية والمتقلبة فإن المخاطر تصبح أكبر. ولكنه يبدو لي أنه من الخطأ الفادح أن نفترض أن زعم "الشرعية الثورية" سيحقق أي شيء ذي قيمة. ومع ذلك، فإننا نسمع هذا التعبير يتردد المرة تلو الأخرى في حركة “تمرد”، وبالنسبة لي فمن ناحية المبدأ أنا لا أساند ولا أعارض ما يسمى "الشرعية الثورية."
ع. ك: إذن عندما طالب الناس "باسقاط النظام" في مصر مباشرة بعد 25 يناير 2011 هل تعتقد أن الرأسمالية كانت طرفاً في هذا؟ أو أن كل ما نشهده في مصر هو سياسي بحت، إذا استطعنا أن نعزل ما يسمى بالاقتصاد عن السياسة؟
ط. أ: كلا، لا أعتقد أنه بالإمكان فصل الاثنين بشكل كامل. ولكن رغم هذا، أعتقد أن إسقاط مبارك وجماعته- عصابته، كما كان النقاد يصفونهم- كان أمراً مهماً جداً وخطوة بالغة الدلالة، رغم أنها لم تتمكن بالطبع من تحقيق كل شيء. وأحد الأسباب لهذا كان بالضبط هو تخندق كل تلك المؤسسات في الدولة. وقد ذكرت سابقاً أمثلة كالإعلام، والقضاء، ووزارة الداخلية، والشرطة، وأجهزة الأمن.
إذا تذكر المقال الذي كتبته قبل عام ونصف عن مصر، وقد جعلته الحوادث الآن بالتأكيد متقادماً، فربما ستتذكر أنني اقتبست جزءا ً طويلاً من أحد معارفي الذي التقيته عن طريق صديق مشترك، وهو شخص في منتصف الستينيات من عمره، وتحدث عن إعجابه بالمبدئية التي يراها في الشباب رغم أنهم على ما يبدو لا يعرفون ما هي الخطوة التالية في مصر الثورة. لا أحد منا، كما قال، يعرف ما هي الخطوة التالية لأن الجريمة الكبرى التي ارتكبها مبارك ضد مصر لم تكن الجريمة الاقتصادية بقدر ما كانت إفساد مجتمع بأكمله. أعتقد أن ما قصده لم يكن أن المسؤولين الكبار كانوا على استعداد ليأخذوا رشاوى، ولكن أعتقد أن ما قصده، أو ما اعتقدت أنه قصده، هو أن تجذر العديد من المصالح المتشابكة والاعتماد المتبادل بينها جعل من الصعب أن يكون هناك تعامل موضوعي وحيادي. وقد ضرب مثلاً، ربما تتذكره، هو طلب دعاة الديمقراطية أن يتم تطهير أجهزة الأمن، فهناك ما يربو على مليون شخص في تلك الأجهزة، كما قال، وإذا تم طردهم جميعاً وإلقاؤهم إلى سوق العمل فمن أين ستعيش عوائلهم؟ وهل تعتقد أنهم لن يكونوا مستعدين للقيام بأعمال سيئة؟ ومن الذي سيقوم بتدريب المنتسبين الجدد غير هؤلاء الأشخاص أنفسهم؟ هذا ما كان يريد قوله على ما أظن حين تحدث عن فساد المجتمع، أنه كان موضوعاً معقداً. فهو لم يكن يتحدث عن فساد الأفراد، ولكن في الحقيقة كان يتحدث عن اعتماد الكثير من الأفراد على النظام مما جعل إصلاح جزء من المجتمع أمراً غاية في الصعوبة بدون أن يحدث تأثيراً مباشراً علي المجتمع ككل. لقد كان يتحدث عن فساد النظام بأكمله.
ع. ك: لقد جادل الكثيرون أن الإخوان المسلمين، وربما مثل المستفيدين من نظام مبارك، يجب أن يكونوا جزءاً من الإجماع الجديد الذي سيظهر في مصر بشكل أو بآخر، وأنهم يجب أن يكونوا في العملية أيضاً. فهم جزء من الاختلافات كما قلت، التي يجب أن نتقبلها ضمن الاجماع الوطني المجتمعي الذي سينبثق من مصر إذا لم يقدنا الوضع إلى نوع ما من الحرب الأهلية كما أخشى.
ط. أ: نعم، بالتأكيد ونحن نتذكر الجزائر هنا. أنت محقة تماماً، رغم أن هذا هو ما أعتقده الخطأ الرئيس من جانب المعارضة التي لا تنتمي إلى المستفيدين القدامى من نظام مبارك: عدم رؤية أنك بدعوتك للجيش، فإن هذا سيقمع المحاولة الجدية الوحيدة لتغيير الأشياء، أياً كانت نتيجة هذا الأمر إيجابية أم سلبية، فإن الجيش سيحاول وقف هذا. لأن عوضاً عن قول:"حسناً، نحن سنتصرف فقط إذا كان هناك عنف أو إخلال بالأمن، وسنوقف أي قتال متوقع في الشوارع." بدلاً من هذا، فقد اعتقلوا أعداداً كبيرة من الإخوان المسلمين، وقتلوا ما يقرب من خمسين وجرحوا المئات أمام مقر الحرس الجمهوري. كل هؤلاء الأشخاص، وبضمنهم القادة، تمت معاملتهم بقسوة، ومهاجمتهم، واعتقالهم، وحرق مبانيهم وسياراتهم، وتجميد أرصدتهم، وتم اتهام الرئيس السابق بجريمة ضد الدولة. أليست هذه طريقة غير اعتيادية لبناء إجماع وطني؟ كما تعلمين، فإن لدى الجيش سجل بغيض في إطلاق النار على المتظاهرين. فخلال الفترة الانتقالية إلى الانتخابات الرئاسية، كانت هناك عدة مواجهات مع الجيش قتل فيها الكثير من المدنيين- وبضمنهم خارج مبنى التلفزيون الحكومي حيث قتل عدد كبير من المسيحيين أثناء تظاهرهم. لذلك فهو يريد أن يبرز قبضته الحديدية بين الحين والآخر ليري الناس ما الذي يمكنه أن يفعل بهم إذا لم يتصرفوا بهدوء. وبالتأكيد، فإن الجيش يفضل ألا يطلق النار على مواطنيه إن أمكن، فهم يحبون أن يكون المدنيون وراءهم حيث يمكنهم إخفاؤهم. ولكننا نجد السلفيين ضمن من اختاروهم من المدنيين هذه المرة، وهم أكثر أصولية – أنا لا أحب هذا التعبير كما تعرفين- وأكثر محافظة وقريبون جداً من السعودية ودول الخليج التي دفعت لهم الكثير من الأموال. إنه من المضحك أن نرى محاولة لبناء إجماع وطني بوجود السلفيين كممثلين عن "الإسلاميين" بشكل عام رغم أن أعدادهم ليست بنفس حجم أعداد الإخوان المسلمين في مصر.
ع. ك: كيف تفسر هذا الخيار من جانب الجيش وحزب النور السلفي في التعاون مع بعضهما البعض في الأحداث الأخيرة؟
ط. أ: أنا لا أرى هذا الأمر محيراً جداً، لأنه بالنسبة للجيش والمعارضة الواسعة فإنهم يمثلون عنصراً يمكن إدارته من التيار الإسلامي، ولهذا فقد تم ضمهم فيما يسمى بالإجماع الوطني لمستقبل مصر. يجب أن تتذكري أيضاً أن حزب النور قريب جداً من السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكليهما مؤيدان قويان للحكومة الانتقالية المدعومة من الجيش. فقد عرضتا ثمانية بلايين دولار من كليهما، كما وعدت الكويت بالمزيد. لقد كانت السعودية قريبة جداً من السلفيينوليس. في الحقيقة، فقد كانوا معارضين أقوياء للإخوان المسلمين كما تعلم. وهذا هو الحال أيضاً مع الإمارات العربية المتحدة، والتي لها نفس الموقف السعودي في التخوف من الإخوان المسلمين وليس من السلفيين، ولهذا السبب فأنا لا أرى غرابة في الموقف. فقد كان الجيش على اتصال بالسعودية قبل الانقلاب وبعده، فالسعودية ودول الخليج لم تكن فقط معادية بشدة للإخوان المسلمين، ولكن دعنا نتذكر أيضاً أن هذه الدول حلفاء مقربون من الولايات المتحدة. إن إحدى التحركات السياسية التي تفتقر للذكاء لمحمد مرسي هي اقتراحه أن تتناقش عدة دول لإيجاد حل سياسي للحرب الأهلية السورية، وهي كل من: السعودية، وإيران، وتركيا، ومصر. وقد تم تجاهل هذا المقترح من قبل السعودية والولايات المتحدة، وبالتالي سحب مرسي اقتراحه وغير موقفه تجاه سوريا. إن غباء مرسي لا يظهر في اقتراحه الأساسي (وهو اقتراح ممتاز بالمناسبة) ولكن في سحب الاقتراح فور ظهور معارضة سعودية وأمريكية.
ع. ك: وفي نفس السياق، هناك موضوع عودة ظهور الإرهاب وتصنيف الاخوان المسلمين كجماعة إرهابية ضمن الحركة الوطنية في مصر، كما أراه. ما هو تفسيرك لهذا؟ هل هو إحدى تبعات استعادة "الأمن والقانون" الذي يشهره الجيش، أو هو شيء آخر يحدث هنا؟ لماذا هذه النظرة السائدة الآن للإخوان ومؤيديهم على أنهم إرهابيون؟
ط. أ: يبدو لي أن جزءاً من عملية تشويه الإخوان كانت موجودة بالفعل منذ أيام مبارك. فقد حاول مبارك أن يضفي الشرعية على نفسه في أعين الولايات المتحدة وأوروبا بشكل كبير عن طريق تقديم "الحرب ضد الإرهاب"، والزعم أنه يبقي الأصوليين الإسلاميين تحت السيطرة. هذه طريقة يستطيع بها الجيش أن يستمر في تبرير الموقف في سيناء على أنه الإرهاب الفلسطيني المزعوم. وفي هذه النقطة فإن مصالحهم تتقاطع مع إسرائيل إلى أن نصدق- وكما تخبرنا بهذا أجهزة الإعلام مرة تلو أخرى- أن الإخوان المسلمين هم حماس، وهي "منظمة إرهابية" تعني غزة بالكامل، وبالتالي تعني فلسطين. إن الإعلام يتحدث دوماً عن أن "الأمن" في سيناء هو مسؤولية الجيش المصري الذي بقي على الدوام في تنسيق دائم مع الأمن الإسرائيلي.
ع. ك: كيف تفسر المدى الذي وصلت إليه المعارضة في احتضان منطق الإرهاب؟
ط. أ: إحدى الطرق للنظر في هذا الموضوع هي أن نعي عوامله المتعددة: الانتهازية الفجة في أوساط القادة من منتفعي عصر مبارك (وبضمنهم الجيش)، ومخاوف بعض العلمانيين وخصوصاً ضمن حركة دعاة الديمقراطية وإن لم تكن قاصرة عليهم، والسذاجة المنتشرة بشكل واسع في أوساط الشعب.
إن أحد الأشياء التي لا زالت تحدث، ومنذ عصر مبارك، هي انفصال المتشددين عن الجماعة بحجة اهتمامها الزائد عن الحد بالمكاسب الانتخابية، والحصول على السلطة بالطرق السلمية وهذا ما لن يحدث. هكذا تحصل على كل هذا العنف من المتشددين مثل الجهاد الإسلامي الذين قاموا بأعمال مروعة في صعيد مصر. وكما تعلم، فإن الإخوان المسلمين عانوا الكثير من التوترات داخل جماعتهم، والكثير من الخلافات بين شباب الجماعة والكبار، وبين المرنين والجامدين فكرياً. فعلى سبيل المثال، كان عبد المنعم أبو الفتوح، وهو مرشح رئاسي، عضواً بارزاً في جماعة الإخوان المسلمين، وهو طبيب بدأ نشاطه وهو طالب قيادي وتم يجنه لفترة طويلة في عصر مبارك. أنا لا أعلم إن كنت تتذكر هذا، ولكن عندما قدم نفسه كمرشح رئاسي قال إنه يستطيع أن يفعل شيئاً مهماً في حالة فوزه. قال إنه سيبني جسوراً بين العلمانيين والنساء والليبراليين والإسلاميين، وأن هذا ما هو مطلوب في مصر ما بعد مبارك. وبالطبع فإن قيادة الإخوان رفضت هذا، وقالت إنها قررت عدم تقديم مرشح رئاسي، ثم غيروا رأيهم وقدموا مرشحاً، وكان هذا أحد الأعمال غير النزيهة التي قاموا بها، ولكنهم دفعوا أبو الفتوح خارج الجماعة بالطبع. واستمر أبو الفتوح في السباق الرئاسي لكنه لم يحصل على عدد يقترب مما حصلت عليه الجماعة. لقد كان أبو الفتوح من الإخوان ولكنه ذو عقلية منفتحة وأكثر مرونة من قيادة الجماعة، وفي المحصلة النهائية تم استبعاده نهائياً. وهكذا فإن جماعة الإخوان المسلمين تعاني من هذه المشاكل الداخلية، والكثير ممن هم غير راضين عن أدائها تركوها. ولكن في المقابل نرى الكثيرين قد تجمعوا لمساندة مرسي على خلفية أن الجيش هو الخطر الأول ضد تكوين مجتمع عادل. وقد أدى هذا بوسائل الإعلام المعادية لمرسي أن تطلق عليهم لقب إرهابيين. لقد كانت جماعة الإخوان بالطبع أكبر معارضة منظمة في عهد مبارك، وأعتقد أنه لا حاجة بنا للتأكيد على هذا، وهو ما يخلق حساسية شديدة لدى الجيش الذي يرى مصالحه "الطبيعية" مع المنتفعين من عهد مبارك. فقد كان الجيش جزءاً من نظام مبارك، وقد استمر هذا كما هو الحال مع باقي المؤسسات، وإن كان الجيش أكثرها أهمية سياسية في الوقت الراهن. وهكذا فإن الحديث عن "إرهاب" فعلي أو حقيقي يمكن أن يكون مفيداً جداً. فقد استعملته الولايات المتحدة في كل أنحاء العالم، ولا تزال تستعمل كل الوسائل الاستثنائية حتى داخل الولايات المتحدة. وبالتالي فإنه ليس مفاجئاً ان يستعمل هذا الخطاب من قبل مؤيدي الحكومة للحفاظ على السلطة وتوسيعها.
ع. ك: ما هو المستقبل الذي ينتظر مصر فيما إذا تم استبعاد الإخوان المسلمين مرة أخرى من الإطار السياسي الشرعي؟
ط. أ: يبدو لي أن المشهد خطير جداً وغير مبهج على الإطلاق. بالطبع لا يمكن أن نعرف بشكل مؤكد ما الذي سيحدث وإلى أي حد سيتم قمع الإسلاميين، ولكنهم قمعوا بقوة في عامي 1953-1954 على يد جمال عبد الناصر، حين وضع الكثيرين منهم في السجون، وأعدم البعض ونفى آخرين، وهكذا تخلص منهم كفصيل المعارضة الرئيسي. لذلك أعتقد أن الجيش يفكر في شيء مشابه، وأعتقد أن أنصار الديمقراطية ممن يساندون الجيش لا يفكرون في هذا الخيار بوضوح كافٍ. فلنتساءل هنا عما سيحدث لمستقبل "الديمقراطية" الذي يبدأ ويستمر بقمع دموي؟
في كل الأحوال، أعتقد أن هذا ليس هو الوقت المناسب لتوقع ثورة مباشرة. أعتقد أن الناس يستعملون اللغة الثورية بشكل خاطئ، فالتغيير الثوري الشامل ليس أهم ما هو مطروح على الطاولة حالياً. أنا لا أقصد هنا أن "التدرج" هو دائماً الجواب في السياسة. كلا، فليس لدي موقف ثابت حول هذا الأمر. ولكن يبدو لي أن الموقف السياسي السليم يجب أن يتخذه الناس المشتغلون على أرض الواقع. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن كل ما يقومون به وكل قرار يتخذونه هو قرار منطقي أو جيد. ولكن من المؤكد أن كل المؤشرات في الوضع الحالي تشير إلى غياب الإجماع، وإلى خلق وضع يتمكن فيه المنتفعون من نظام مبارك -وبضمنهم الجيش- من أن يتخندقوا أكثر ضد أي محاولة جادة للتحول نحو مجتمع أكثر عدلاً وانفتاحاً.
ع. ك: أين نقف الآن؟ هل ما نشهده الآن هو حكم عسكري؟ أم أنه جزء من عملية ثورية كانت متوقعة منذ البداية، خصوصاً إذا كانت الثورة عملية مستمرة وليست حدثاً منفصلاً؟
ط. أ: بشكل ما فإن كل شيء هو عبارة عن عملية، وإذا نظرت للأمر تاريخياً فإن القرارات المتخذة، والأفعال وحتى المصادفات التي تقع، كلها تنتج سلسلة من التداعيات، سواء كانت بناء على نية مسبقة أم لا. لذلك فأنا لست واثقاً من تسميتها بالعملية يمكن أن يغير الوضع كثيراً. ولكن إطلاق تسمية على وضع سياسي معين هو حد في حد ذاته نوع من الترتيب لتعريف كيفية الدخول في العمل السياسي.
ع. ك: هل ترى ما يحدث الآن في مصر كقصة تمت روايتها بالفعل، أو أنه يجب علينا أن نتوقع معجزة؟ هل يمكن للأشياء أن تتغير؟
ط. أ: كلا مع الأسف، لا أعتقد أن هذا هو الوضع الحالي، وقد أكون مخطئاً تماماً ولكن يبدو لي أن هناك الكثير من الأطراف ممن يهمهم بقاء الوضع الحالي دون تغيير عوضاً عن التحرك لإحداث تغيير حقيقي بإتجاه مجتمع أكثر عدالة (أحد شعارات ثورة 25 يناير). وأخشى أن هؤلاء الأشخاص لديهم مراكز متنفذة الآن، وهم متخندقون حتى وهم يستعملون خطاب الثورة نفسه. لهذا السبب أنا قليل الإهتمام حالياً ما إذا كان ما حدث إنقلاباً أم لا، ومهتم أكثر بكيفية أن الأطراف المختلفة التي تجمعت سوية ضد حكومة مرسي استطاعوا حقاً تغيير الخيارات السياسية المتوفرة حالياً.
إنه من المؤكد أن الناس الصادقين في رغبتهم بالتغيير يستعملون شعارات ثورية، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم سيكونون مؤثرين في تحقيق التغيير الذي يحلمون به. أعتقد أن هناك قوى خارجية تريد بقاء الأمور كما كانت في الدولة القديمة لأسباب سياسية واقتصادية. وهذا يشمل كل القوى الدولية التي تريد استمرار السياسات النيوليبرالية، وهي نفس السياسات التي خلقت كل هذا الفقر في البلد، والذي تستحيل معالجته ما لم يكن هناك تغيير حقيقي في طبيعة السلطة، سواء الشعبية أو الرسمية. أعتقد أنه من الصعب جداً تحقيق هذا التغيير في الوقت الراهن- وقد أسهم اليسار العلماني في هذه الصعوبة. أنت مطلع على مفاوضات قرض صندوق النقد الدولي. لقد كانت هناك عقبات وطلبات عديدة حتى يكون القرض متوفراً. والآن وبعد يومين من عزل مرسي، فإن القرض أصبح متوفراً فجأة وبدون عقبات. أنا لا أقول هنا أنه لم يكن هناك مؤيدون للنيوليبرالية من بين الإخوان المسلمين، ولكن ما أقوله هو أن صندوق النقد الدولي رأى أنه هناك مشاكل سياسية تواجه الحفاظ على هذا النوع من الاقتصاد أكثر مما لو كانت المعارضة في الحكم. هذا الموقف يتقاطع مع التحفظات السياسية الأكثر وضوحاً التي أبدتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة حول إمكانية الاعتماد على حكومة مرسي للعب ضمن القواعد القديمة. يبدو الوضع أكثر شبهاً بالوضع القديم تحت حكم مبارك، وإن كانت هناك بعض التعديلات ولكنها ليست جذرية.
ع. ك: هل هناك ما تود إضافته؟
ط. أ: ما قلته عن الوضع هو بقدر ما أعرفه من معلومات- وربما أكثر مما أعرف. ولكن الشيء المحبط حقيقة، هو للأسف هؤلاء النشطاء الذين ليسوا بأبطال ولا بأشرار، ولكنهم أسهموا في زيادة تعقيد الوضع في مصر.
[أسئلة إضافية من محرري صفحة مصر في “جدلية”:]
س: أولاً، لقد قال الكثير من المراقبين إن التعبير الشعبي عن المعارضة السياسية ضد حكومة مرسي قد سبق ظهور “تمرد” ومظاهرات 30 يونيو، وأنها كانت – إضافة لتمرد- لا مركزية وضمت الكثير ممن هم ليسوا من النخبة القاهرية المعارضة لمرسي. هل هناك خطر في اختزال معارضة واسعة لحكم مرسي إلى إجماع ضيق بين النخبة والجيش؟
ط. أ: إن إشارتي لـ "النخبة المعارضة لمرسي" لا تتعلق بالمركزية أو بمعنى آخر بالمعارضة المضادة لمرسي، ولكن تشير إلى المصادر التي أسهمت في تشويه صورة الإخوان. يمكنني أن أقول إن عدم كفاءة عدمالإخوان المسلمين تتجلى بشكل رئيس في عدم قدرتهم على التنبوء أنه سيتم تشويه صورتهم " كإسلاميين" مسؤولين عن الدولة. أذكر هنا أيضاً مواقف أخرى تدلل على عدم كفاءة الإخوان، مثل "عدم قدرتهم أو عدم رغبتهم في مد اليد إلى بعض شرائح المعارضة." وهذا يشير إلى أن المعارضة كانت متنوعة بشكل يسمح لحكومة مرسي أن تحاول مد يدها إلى أطراف معينة بنجاح أكبر مما لو فعلته مع أطراف معارضة أخرى. وفي كل الأحوال، أريد أن أشدد هنا على أنه مهما كانت المعارضة متنوعة (وهي نقطة أذكرها في إجاباتي بشكل متكرر كما فعل غيري)، فإن “تمرد” لم تكن لتنجح بمفردها في إسقاط مرسي لو لم تتلق دعماً من الفلول والجيش. وبتعبير آخر، فإن هذا التحالف العملي بين “تمرد” التي تزعم أنها تتحدث بإسم "الشعب" و"مصر" و"الديمقراطية" من جانب، وأولئك الذين يسيطرون على مفاصل الدولة الاقتصادية، والإعلامية، والقمعية من جانب آخر، هو الذي أثبت فاعليته.
س: الموضوع الثاني يتعلق بنقاد الإخوان المسلمين. هم يقولون إن الإخوان ومنذ اليوم الأول لرئاسة مرسي دخلوا في تحالف طوعي مع البيروقراطية التقليدية، وخصوصاً الجيش، والشرطة عوضاً عن بناء جسور مع القوى الثورية لوضع أسس تحالف فعال ضد قوى البيروقراطية المتجذرة. كيف تفسر هذه الرؤية؟
ط. أ: لقد قلت بالفعل إن الإخوان المسلمين لم يحاولوا بناء جسور مع أولئك الذين في المعارضة، ولكن عندي بعض الملاحظات الإضافية حول هذا الموضوع. أولاً، إن بناء الجسور عملية تحتاج إلى طرفين، وإذا لم تكن هناك رغبة من الطرف الآخر فإنه لا يمكن بناء الجسور. كما أن "القوى الثورية" (أو جزءاً كبيراً منها) رفض رئاسة مرسي منذ اليوم الأول واعتبرها غير شرعية. وإذا صدقنا بعض الروايات، فإن مرسي قام بالفعل بدعوة بعض من هم في المعارضة (وحتى حمدين صباحي على ما يبدو) للمشاركة في الحكومة ورفضوا، وقد يكون هذا الرفض بسبب عدم الثقة في الرئيس، أو لأنهم لم يكونوا يريدون أي علاقة تربطهم بالإخوان المسلمين، وهو أمر يصعب تحديده. إنه من الصعوبة بمكان أن نتكهن بالدوافع في أحسن الأحوال: ففي أوقات الهيجان الاجتماعي والسياسي يصبح هذا الأمر مستحيلاً تقريباً، لأنه حين تغلب الشكوك القوية على الفرقاء السياسيين فإنهم يستمرون في افتراض النوايا السلبية تجاه بعضهم البعض. ولهذا أنا أسأل هنا: هل تحالف مرسي "طوعياً" مع البيروقراطية التقليدية، أو هل ظن أنه يقوم بحركة تكتيكية (أياً كان خطؤها بالنسبة لنا) لمقاومة العقبات التي تعترض طريق حكومته؟ والأهم من هذا: هل تحالفت القوى الثورية طوعيا مع المنتفعين من نظام مبارك، أم هل قامت بذلك لأسباب تكتيكية؟ أقترح أنه عوضاً عن محاولة التخمين باستمرار حول الدوافع الحقيقي وراء قيام اللاعبين السياسيين المختلفين بفعل ما فعلوه لتحقيق هدفهم المعلن بالإطاحة بالرئيس المنتخب بالقوة (على أساس أنه كان شمولياً ويعتبر نفسه فوق القانون)، فإننا يجب أن نركز على حقيقة أن القيادة الثورية قامت بالفعل بالانضمام إلى المنتفعين من مبارك في الدعوة إلى تدخل الجيش، وأن هذه القيادة رحبت فعل بالانقلاب حين وقع! من المتحالف مع من إذن؟ وهل هذا هو التوجه الفكري الذي سوف يقود مصر إلى مجتمع أكثر عدالة ونزاهة؟
[ترجم الحوار إلى العربية علي أديب. يمكن قراءة الحوار بالإنكليزية هنا]